التاريخ الإسلامي |
سقوط طليطلة والاستعانة بالمرابطين
في سنة (478هـ=1085م) كانت قد سقطت طليطلة، ومنذ سقوطها في ذلك التاريخ لم تَعُدْ إلى المسلمين، ثم حوصرت إشبيلية؛ مع أنها كانت تقع في الجنوب الغربي للأندلس وبعيدة عن مملكة قشتالة النصرانية التي تقع في الشمال، ثم كاد المعتمد بن عباد أن يحدث معه مثلما حدث مع بربشتر أو بلنسية لولا أن مَنَّ الله عليه بفكرة الاستعانة أو التلويح بالاستعانة بالمرابطين.
ويبدو أن فكرة الاستعانة بالمرابطين كانت فكرة شعبية خرجت أول ما خرجت من العلماء والمشايخ، وتلقاها العامة بالقبول والتأييد، ثم صارت مطلبًا عامًّا، ونداء متكررًا يجد الدعم الشعبي، ويوحى به عند الأمراء، ومن الواضح -أيضًا- أنها بدأت من قبل سقوط طليطلة بأعوام، ولو أن ملوك الطوائف امتلكوا مثل هذا الوعي الشعبي لكانوا قد منعوا سقوط طليطلة، وما لحقهم من الذل قبلها وبعدها.
يُورد النويري أنه قد «بلغ مشايخ قرطبة ما جرى، فاجتمعوا بالفقهاء وقالوا: هذه مدائن الأندلس قد غلب عليها الفرنج، ولم يبقَ منها إلاَّ القليل، وإن استمرَّت الأحوال على ما نرى عادت نصرانيةً كما كانت. ثم ساروا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم، فقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصَّغَار والذلة، وإعطائهم الجزية إلى الفرنج بعد أن كانوا يأخذونها منهم، وابن عباد هو الذي حمل الفرنج على المسلمين، حتى جرى ما جرى وطلب منه ما طلب، وقد دبَّرنا رأيًا نعرضه عليك. قال: وما هو؟ قالوا: نكتب إلى عرب إفريقية، ونُعلمهم أنهم إن وصلوا إلينا قاسمناهم في أموالنا، وخرجنا معهم مجاهدين في سبيل الله تعالى. قال: أخاف أن يُخَرِّبُوا الأندلس كما فعلوا بإفريقية ويتركوا الفرنج ويبدءوا بكم، والمرابطون أقرب إلينا وأصلح حالاً. قالوا: فكاتب يوسف بن تاشفين ورغِّب إليه أن يدخل إلينا بنفسه، أو يرسل إلينا قائدًا من قوَّاده. قال: أمَّا الآن فقد أشرتم برأي فيه السَّداد. وقَدِمَ المعتمد إلى قُرْطُبَة في أثر ذلك، فدخل عليه القاضي وأعلمه بما دار بينه وبين أهل قُرْطُبَة وما اتفقوا عليه، فقال المعتمد: نِعْمَ ما أشاروا به، وأنت رسولي إليه. فامتنع القاضي واستعفاه، وإنما أراد أن يُقَوِّيَ عزمه على إرساله، فقال: لا أجد لها غيرك.
فسار القاضي وصحبه أبو بكر ابن القصيرة الكاتب إلى أمير المسلمين، فوجداه بسبتة، فأبلغاه الرسالة، وأعلماه بحال المسلمين وما هم عليه من الخوف والجزع من الأذفونش، وأنهم يستنصرون بالله ثم به؛ وأن المعتمد يستنجد به...» [1].
بل نستطيع أن نقول: إن حركة المشايخ والفقهاء قد وصلت إلى يوسف بن تاشفين من قبل هذا، ففي سنة 474هـ، وفد جماعة من أهل الأندلس على يوسف بن تاشفين، وشَكَوْا إليه ما حلَّ بهم من أعدائهم، فوعدهم بإمدادهم، وإعانتهم، وصرفهم إلى أوطانهم[2].
كما وردت عليه -أيضًا- الرسائل والكتب من أهل «الأندلس، يبثُّون حالهم، ويُحَرِّكونه إلى نصرهم. وفي سنة اثنتين بعدها ورد عليه عبد الرحمن بن أسباط من ألمرية؛ يشرح حال الأندلس»[3].
وكان ممن كتب إليه –قبل ذلك- المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس يستصرخه حين هاجم العدوُّ بلاده، ولما بلغ خطابه هذا أمير المسلمين يوسف بن تاشفين كتب إليه يَعِدُه بالجواز، والإمداد على العدو[4].
يوسف بن تاشفين يمهد للعبور
إلاَّ أن يوسف بن تاشفين كانت لديه مشكلتان رئيستان؛ الأولى: أنه لم يُسيطر على سبتة، وهو الميناء المهم الذي يُعَدُّ منفذًا لدخول الأندلس، فقد كان ما يزال تسيطر عليه قبيلة برغواطة وعليهم زعيمهم سقوت البرغواطي. والثانية: أنه ما كان يمكنه العبور إلى الأندلس من دون النزول في أراضي غرناطة أو إشبيلية، فهي أقرب المناطق إلى المغرب؛ لذا فما كان أمام ابن تاشفين إلا أن ينتظر رسالة من المعتمد بن عباد لكي يستطيع أن ينزل إلى الأندلس بأمان ولا يُعتبر محاربًا مهاجمًا لأراضي إشبيلية أو غرناطة.
إلا أن ابن تاشفين –بعد أن وصلته استغاثات الأندلس- وجَّه جهوده إلى فتح سبتة، ففتحها بالفعل، ثم بدأ يستكثر من الأعداد وتجهيز الإمدادات منتظرًا أن تأتيه الرسل من ابن عباد ملك إشبيلية.
ولا شكَّ أن ابن عباد كان يفهم كل هذا ويعلمه؛ ولذلك فإنه لما راسل ابن تاشفين خاطبه خطاب مَنْ يعرف وعوده السابقة للعامة وللمتوكل ابن الأفطس، «منتجزًا وعده في صريخ الإسلام بالعدوة وجهاد الطاغية»[5].
المعتمد بن عباد يرد على ألفونسو
انتشر في الأندلس الرد الذي كتبه المعتمد إلى ألفونسو والذي يُهَدِّده فيه بالجيوش المرابطية، وما أظهر من العزيمة على جواز يوسف بن تاشفين، والاستظهار به على العدوِّ، فاستبشر الناس، وفرحوا بذلك، وفُتحت لهم أبواب الآمال، وأما ملوك طوائف الأندلس فلمَّا تحقَّقوا عزم ابن عباد وانفراده برأيه في ذلك، اهتمُّوا منه -أي: صاروا مهمومين مما عزم عليه- ومنهم مَنْ كاتبه، ومنهم مَنْ كَلَّمَه مواجهة، وحَذَّرُوه عاقبة ذلك، وقالوا له: المُلْكُ عَقِيمٌ، والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد. فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلاً: رعي الجمال خير من رعي الخنازير. ومعناه: أن كونه مأكولاً ليوسف بن تاشفين أسيرًا له يرعى جماله في الصحراء، خير من كونه ممزَّقًا للأذفونش أسيرًا له يرعى خنازيره في قشتالة. وقال لعذَّاله ولُوَّامه: يا قوم؛ إني من أمري على حالتين: حالة يقين، وحالة شكٍّ، ولا بُدَّ لي من إحداهما؛ أما حالة الشكِّ فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفي لي ويبقى على وفائه، ويمكن أن لا يفعل، فهذه حالة الشكِّ، وأمَّا حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أُرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطتُ الله تعالى، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة، فلأي شيء أدعُ ما يُرضي الله وآتي ما يُسخطه. فحينئذٍ قصر أصحابه عن لومه[6].
وكان ممن وافق ابن عباد على رأيه المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس، وكذلك عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة، فأصبحت (غرناطة وإشبيلية وبطليوس) الحواضر الإسلامية الضخمة متَّفِقَة على الاستعانة بالمرابطين.
وفور موافقة الأمراء الثلاثة جعلوا منهم سفارة كانت مكونة من قضاة المدن الثلاث: قاضي الجماعة بقرطبة أبو بكر بن أدهم، وقاضي غرناطة أبو جعفر القليعي، وقاضي بطليوس أبو إسحاق بن مُقانا، ثم أضاف المعتمد إليهم وزيره أبا بكر بن زيدون، وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف بن تاشفين، وترغيبه في الجهاد، وأسند إلى وزيره ما لا بُدَّ منه في تلك السفارة من إبرام العقود السلطانية، وعلى هذا، فقد كان الوفد مكوَّنًا من هؤلاء الأربعة فقط[7].
وكان يوسف بن تاشفين لا يزال يَفِدُ عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء، ناشدين الله والإسلام، مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته، فيستمع إليهم ويُصغي إلى قولهم، وترقُّ نفسه لهم([8]).
وفي سنة (478هـ=1085م) يستقبل يوسف بن تاشفين الوفد الذي جاء من قِبَل بعض ملوك الطوائف -كما ذكرنا- يطلبون العون والمساعدة في وقف وصدِّ هجمات النصارى عليهم[9]، فأَعَدَّ العُدَّة –رحمه الله- وجهَّز السفن، وبينما يعبر مضيق جبل طارق وفي وسطه يهيج البحر، وترتفع الأمواج، وتكاد السفن أن تغرق، وكما كان قائدًا يقف هنا قدوة وإمامًا، خاشعًا ذليلاً، يرفع يديه إلى السماء ويقول:
« اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيرًا وصلاحًا للمسلمين فسهِّل علينا جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعِّبْه عليَّ حتى لا أجوزه». فتسكن الريح، ويَعْبُر هو ومَنْ معه[10]، وعند أول وصول له -والوفود تنتظره ليستقبلوه استقبال الفاتحين- يسجدُ لله شكرًا أنْ مكَّنَهُ من العبور، وأن اختاره ليكون جنديًّا من جنوده ومجاهدًا في سبيله[11].
المصادر
[1] النويري: نهاية الأرب، 23/266، 267، وابن الأثير: الكامل 8/445، 446.
[2] مجهول: الحلل الموشية، ص33.
[3] ابن الخطيب: الإحاطة، 4/350.
[4] مجهول: الحلل الموشية، ص33.
[5] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/186.
[6] المقري: نفح الطيب، 4/359.
[7] الحميري: الروض المعطار، ص288، والمقري: نفح الطيب، 4/359، والسلاوي: الاستقصا، 2/39.
[8] الحميري: الروض المعطار، ص289.
[9] انظر: ابن الأثير: الكامل، 8/446.
[10] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص145، والسلاوي: الاستقصا، 2/34، وانظر رسالته إلى تميم بن باديس، نقلاً عن محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 3/447.
[11] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/320.